الجمعة 3 جمادى الأولى 1442 هـ

الموافق 18 ديسمبر 2020 م

 

الحمد لله العلي القدير، السميع البصير، الذي أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، وهو اللطيف الخبير، علم ما كان وما يكون، وخلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وهو العزيز الغفور، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نرجو بها النجاة في يوم النشور، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، البشير النذير والسراج المنير، صلى الله وسلم  وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.

أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ونفسي ـ بتقوى الله تعالى، اتقوا الله رحمكم الله، فتقوى الله هي الوصية الجامعة، والذخيرة النافعة، واستعدوا للمنايا فهي لا بدّ واقعة، واحذروا زخارف الدنيا  المضلة، فمن استكثر منها فما ازداد إلا قلة، وليكن استكثاركم وازديادكم من التقوى، فهي خير زاد، (يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)

معاشر المسلمين: في كل عام من الأعوام، يبلغ بعض الموظفين والعمال سن التقاعد، فيتقاعدون ويقاعدون عن وظائفهم وأعمالهم، في سن معينة، وكما يقال يحالون للتقاعد… والتقاعد مرحلة نعيش جوها، إما ببلوغها أو بالعيش مع من بلغها لتمضي سُنّة الحياة، ضَعفٌ ثم قوةٌ ثم ضعف، كما قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) جيل يعقبه جيل لتتم سنة الاستخلاف، وعمارة هذه الأرض. وهذا التصنيف الوظيفي متقاعد وغير متقاعد، فرضته أنظمة العمل الرسمي، ليحل موظف بدل موظف آخر، ولكنه ليس حكماً على الإنسان بالموت، ولا منعاً له من العطاء في ميادين أخرى، فهو تصنيف لا يصح أبداً أن يسري إلى بقية حياة المتقاعد. فبعد حياة الكد والكدح وهموم العمل، تأتي مرحلة التقاعد، مرحلة الطمأنينة والسكينة والتفكر والتدبر، وحري بمن أدرك مرحلة هذه صفاتها أن يرى الأشياء على حقيقتها، فلا يخطو خطوة إلا وهو يعلم موضع قدمه، ولا يمشي في طريق إلا وهو يلمح نهايته السعيدة، ولا يقدم على فعل إلا وهو يسمو إلى ثمرته اليانعة.

أيها الأخوة والأخوات في الله: إن مرحلة التقاعد هي أهم المراحل لك الآن يا من تتقاعد؛ لأن الأعمال بالخواتيم، فيمكنك أن تزرعها بالورود والرياحين إن كنت زرعت ما قبلها بالأشواك، ويمكنك أن تملأها بالذكر الحسن إن كنت قد ملأت ما قبلها بضده، ويمكنك أن تصحح علاقتك بربك الكريم إن كانت علاقتك به على غير صراطه المستقيم.

لئن ضعف بدنك في سن التقاعد، فلقد قوي عقلك، ولئن رق عظمك فلقد زاد فهمك، ولئن لاح الشيب في رأسك، فلقد ظهرت الحكمة في رأيك. فلا تظننَ أن التقاعد دعوة إلى القعود وركون إلى الخلود، بل هو توقف عن العمل الرسمي فقط، وليس توقفاً عن العمل الرباني، والإنسان مكلف ما بقيت فيه عين تطرف وعقل يميز. (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)

وتأمل حفظك الله حال الصحابة رضوان الله عليهم عـند كبرهم وضعف قواهم، تجدهم لم يتوقفوا عن الاستزادة من أبواب البر والخير والطاعة،  حتى لو كانت شاقة عليهم.. لما خرج رسول صلى الله عليه وسلم إلى غزوة أحد، بقي اليمان بن جابر وثابت بن وقش رضي الله عنهما بقيا في المدينة، وكانا شيخين كبيرين لا يقويان على الجهاد في سبيل الله، فقال أحدهما لصاحبه: لا أبا لك! ماذا ننتظر؟ فو الله ما بقي لواحد منا من عمره إلا وقت يسير، ألا نأخذ أسيافنا فنلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ونجاهد معه في سبيل الله؟ فلحقا بالجيش واستشهدا هنالك.. فإذا كانت هذه أحوال الصحابة عند كبرهم مع الجهاد في سبيل الله، وما فيه من المشقة والمخاطر، فكيف بحال المتقاعد، مع الطاعات والعبادات التي هي أقل بكثير من مشقة الجهاد في سبيل الله وأخطاره.

أيها المتقاعد الكريم: إن لكل مرحلة من العمر جمالها. فالتقاعد عن العمل الرسمي، هو في حقيقته انتقال من مرحلة إلى مرحلة أخرى من العطاء والعمل، إذ لا توقف في حياة العبد: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّر) وصاحب الهمة العالية إذا بلغ هدفاً، بحث عن هدف آخر مثله، أو أعلى منه ليصل إليه، ولا يوقفه عن السباق إلى مجد الدنيا والآخرة إلا توقف نَفَسِه، ولئن توقفت دورة الدوام الرسمي، فلن تتوقف عجلة النفع والانتفاع، بعمل صالح، وصدقة جارية. لذا يجب أن يُفهم كلام العلماء الذين يتحدثون عن الاستعداد للآخرة على وجهه، فحينما يؤمر صاحب هذه السنّ بالذات بالإقبال على الله تعالى والدار الآخرة، فهذا لا يعني صورةً محددة من الطاعة، فالعبادات كالصلاة وقيام الليل وقراءة القرآن والصدقة والصيام والحج والعمرة وتعليم الناس كلها لون من ألوان القربات، وكذلك الجهاد بالمال والنفس لون من ألوان القربات، والتصدي لحل مشكلات الناس لونٌ، والشفاعة لمن يحتاجها عند المسئولين لونٌ، المهم أن يجتهد العبد في عمارة وقته بكل قربةٍ وطاعة يستطيعها، وهذا ما فهمه أهل الإيمان من الأوائل والأواخر.

أيها المتقاعد الكريم: إن بلوغ سن التقاعد نعمةٌ عظيمة من الله ينبغي شكرها واستثمارها، فإن الفَسْحَ في أجل المؤمن خيرٌ له، فهو فرصةٌ للتزود من الأعمال الصالحة، الدينية والدنيوية. فبلوغ سن التقاعد يعني تجاوز سن الأشد وهو سن الأربعين بعشرين سنة، وهذا ما يجعل العبد المؤمن يفكر كثيراً في نصيبه من هذه الآية الكريمة يقول تعالى:(وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً، وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً، حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ، وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

قال بعض المفسرين: وفي هذا دليل على أن اشتغال الإنسان بطاعة الله يقوى في هذا الوقت، ففي الأربعين تناهى العقل، وما قبل ذلك وما بعده منتقص عنه.

إن تجاوز الستين من العمر، يعني شيئاً آخر، ألا وهو الدخول إلى معترك المنايا، نسأل الله حسن الخاتمة، فتأمل رحمك الله هذا الحديث وشرحه. يقول صلى الله عليه وسلم: ‏ (أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً) ‏ قال الإمام الحافظ ابن حجر رحمه الله: (والمعنى أنه لم يبق له اعتذار كأن يقول لو مُد لي في الأجل لفعلت ما أُمرت به، يقال أعذر إليه إذا بلغه أقصى الغاية في العذر ومكّنه منه. وإذا لم يكن له عذر في ترك الطاعة مع تمكنه منها بالعمر الذي حصل له فلا ينبغي له حينئذ إلا الاستغفار والطاعة والإقبال على الآخرة بالكلية). وقال بعض شراح الحديث: (إنما كانت الستون سنة حدّاً لهذا لأنها قريبة من المعترك، وهي سن الإنابة والخشوع وترقب المنية، فهذا إعذار بعد إعذار لطفاً من الله بعباده حتى نقلهم من حالة الجهل إلى حالة العلم، ثم أعذر إليهم فلم يعاقبهم إلا بعد الحجج الواضحة، وإن كانوا فُطروا على حب الدنيا وطول الأمل لكنهم أُمروا بمجاهدة النفس في ذلك ليتمثلوا ما أمروا به من الطاعة، وينزجروا عما نهوا عنه من المعصية.. وفي الحديث إشارة إلى أن استكمال الستين مظنة لانقضاء الأجل. وأصرح من ذلك، قوله صلى الله عليه وسلم: (أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ ، وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ)

ولله درالإمام الشافعي رحمه الله حيث قال:

يا واعِظَ الناسِ عَمّا أَنتَ فاعِلُهُ

يا مَن يُعَدُّ عَلَيهِ العُمرُ بِالنَفَسِ

أحفَظ لِشَيبِكَ مِن عَيبٍ يُدَنِّسُهُ

إِنَّ البَياضَ قَليلُ الحَملِ لِلدَنَسِ

كَحامِلٍ لِثِيابِ الناسِ يَغسِلُها

وَثَوبُهُ غارِقٌ في الرِجسِ وَالنَجَسِ

تَبغي النَجاةَ وَلَم تَسلُك طَريقَتَها

إِنَّ السَفينَةَ لا تَجري عَلى اليَبَسِ

رُكوبُكَ النَعشَ يُنسيكَ الرُكوبَ عَلى

ما كُنتَ تَركَبُ مِن بَغلٍ وَمِن فَرَسِ

يَومَ القِيامَةِ لا مالٌ وَلا وَلَدٌ

وَضَمَّةُ القَبرِ تُنسي لَيلَةَ العُرُسِ

 

أيها المتقاعد الكريم: لا شك أنك ستفقد بسبب التقاعد جزءاً من المال، لكنك ستكسب ما هو أغلى منه، ألا وهو الوقت، فالناس كلهم يبذلون الأموال ليكسبوا الأوقات فيملئوها بما يحبون. فاعتبر ما تفقد من مال ثمناً للوقت النفيس الذي سيتاح لك لتعمره بكل خير كنت تـتمنى أن تفعله وتداوم عليه. أما ما مضى من مراحل فقد ولَّى وراح فلا تستطيع أن تعيده ولا أن تفعل فيه شيئاً.

لقد امتن الله الكريم عليك بهذا التقاعد، وقد أمرك الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم باغتنام خمس قبل أن تمنعك خمس، وذكر منها (وفراغك قبل شغلك)، فكيف إذا كان الأمر بالعكس بالنسبة إليك، فقد كنت مشغولاً ثم فرغت؟ أما وقد فرغت فعليك بما أوصاك به ربك بقوله تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) يقول ابن كثير رحمه الله: (أي إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها وقطعت علائقها فانصب إلى العبادة وقم إليها نشيطًاً فارغ البال وأخلص لربك النية والرغبة). لقد أكرمك ربك ومولاك بأن أمدَّ في عمرك حتى بلغت سن التقاعد، فأحسن العمل لتكون من خير الناس، فقد سَأل رجلٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: من خير الناس؟ قال: (من طال عمره وحسن عمله) يقول العلماء رحمهم الله: (إن الأوقات والساعات كرأس المال للتاجر، فينبغي أن يتجر فيما يربح فيه، وكلما كان رأس ماله كثيراً كان الربح أكثر، فمن انتفع من عمره بأن حسن عمله فقد فاز وأفلح، ومن أضاع رأس ماله لم يربح وخسر خسراناً مبيناً).

أيها المتقاعد الكريم: ما أجمل العطاء وفي سن التقاعد خصوصاً! إنه ينبئ عن فقهٍ صحيح لحقيقة هذا المال الذي عما قريب سينتقل إلى الورثة ! فمَالُ الإنسان ما قَدَّمَ، ومالُ وارثِه ما

أخَّرَ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

فإن كنت ممن وسّع الله عليك، ورزقك من فضله، فكم هو جميل أن تبادر إلى تثبيت صدقةٍ جارية لك، يمتد أثرها لك من بعد موتك. بادر بها أنت الآن، فلعلك ترى ثمرتها قبل أن تموت، ولا تتأخر وتقول: سأوصي الأولاد أن ينفذوها، فخير البر عاجله، والوصية قد يعتري تنفيذها ما يعتريه، والإنسان عندما يريد السير في طريق مظلمة، فإنه يجعل السراج أمامه لا خلفه.

وأخيراً: يا عبد الله أذكرك متعك الله بالصحة والعافية وطول العمر في الطاعة، بما بدأت به: إن هذا التصنيف الوظيفي متقاعد وغير متقاعد، فرضته أنظمة العمل ، ولكنه ليس حكماً على الإنسان بالموت، ولا منعاً له من العطاء في ميادين أخرى، فهو تصنيف لا يصح أبداً أن يسري إلى بقية حياة المتقاعد.

اللهم متعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقواتنا، أبداً ما أبقيتنا، اللهم اجعلنا ممن طال عمره وحسن عمله يا رب العالمين.

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله   وأزوجه وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً…

أما بعد: أخي المتقاعد العزيز: إن المسلم لا يحزن ولا ييأس ولا يقلق ولا يندم على ما فات، ولا يهتم لما سيأتي من الكبر والشيخوخة والهرم، فهذه سنة الله في الحياة، ولو دامت لغيرك لما وصلت لك، ثم إن نهاية عملك الوظيفي هو بداية لحياة جديدة ملؤها الإيمان، والتقوى، والتفاؤل، والخبرة، والتجارب، وانشراح الصدر، والرجوع الصادق إلى الله عز وجل، والتزود من الطاعات، والتلذذ بحلاوة الإيمان والعبادة ومناجاة رب العالمين، وهي مكافأة قيمة للمتقاعد تتلخص في الراحة والسعادة ومحاسبة النفس والتفرغ لأسرتك وأمورك الخاصة وصلة رحمك وفرصة لمراجعتك لصلتك بربك بعد هذا المشوار الطويل من العمل؛ يقول الله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) فإحالتك على التقاعد ليست نهاية المطاف؛ فلكل أجل كتاب، وإحالتك على التقاعد هي الفرصة الذهبية لتعويض ما فات من التقصير في الواجبات الدينية والأسرية يقول الله تعالى:  (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) نعم.. إنها فرصة كبيرة لمن وفقه الله تعالى ووصل إلى الحياة التي فيها متسع من الحرية في الوقت، ويا حبذا عدم إشغال نفسك بزخارف الدنيا وزينتها حتى لا تشغلك كثيراً وتحرمك من حلاوة حياة التقاعد ولذتها وأنسها؛ فهي فرصة طيبة لمحاسبة النفس، ومراجعة أحوالك بشكل عام، فافرح بذلك ولا تكن ممن يحزنه أمر التقاعد واشكر الله على هذه النعمة.

أيها المسلمون، أيها المسئولون:  من حقِّ هذه الفئة العزيزة علينا، وهذه النفوس الكريمة، التي انتهَى عملُها النظاميُّ، أن تطمئنَّ بعدما جاهَدَت بصحَّتها ووقتها وفِكرِها، وأفنَت أيام حياتها لتبنِيَ أُسرة، وتعمُر وزارة أو إدارة أو مُؤسَّسة، وتخدمَ أمَّةً، فأضاءَت للوطن والمُجتمع دُروبَ الخير، وأجرَت ينابيعَ النفع، لا ينبغي أن يتوقَّفَ هذا النفع، أو ينتهي عند أبوابِ التقاعُد… ليس من الوفاء أن من قدَّم لبلده وأمته زهرةَ عُمره، وأيام جدِّه وحيويَّته، أن يُفرَّط فيه آخرَ عُمره، من حقه علينا أن نضع له التشريعات والقوانين التي تحميه، وتقدر له عمله، وتحفظ له ما قدم في شبابه، وترفع من مستواه المعيشي، وتغنيه عن الحاجة وذل السؤال، وأن يُنظَر فيما يمكن أن يُفيدَ فيه من الفُرص والمجالات، في غير مِنَّةٍ ولا شفقةٍ؛ بل ثقةٍ به واعتِرافًاً بحقِّه وقُدراته.

بل لعلَّ في لفتِ القرآن الكريم إلى تذكُّر حقِّ الوالدين في وقت عطائِهما وكريمِ عملِهما ما يدلُّ على ما ينبغي من امتِداد الوفاء لكل موظف وعاملٍ، والاعتِرافِ بالجميل لكل ذي جميل: (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) من حقِّ هذه الفئة العزيزة الغالية أن يُقدَّم لها ما يُؤكِّدُ الاعتِرافَ بفضلِها وكريمِ صُنعِها.

ألا فاتقوا الله  رحمكم الله ، واعلموا أن المُجتمع لم يستغنِ البتَّةَ عن عملِ هؤلاء وكفاءاتهم وخِبراتهم، ولكنها المُدَّةُ النظاميَّةُ انتهَت وليس إلا، أما العملُ والكفاءةُ والقُدرةُ والحاجةُ فباقيةٌ مُمتدَّة، والدليلُ الظاهرُ أن كثيراً من الدول والمُؤسَّسات تستعينُ بخبراتٍ تجاوَزَت السنَّ النظاميَّة المحدودة في داخِلِ الدول وخارجِها.

وإن السنَّة العُمَريَّة الراشِدة هي أولُ من خصَّصَ المُخصَّصات للعاجِزين عن الكسبِ من المُسلمين والمُعاهَدين وأهل الذمَّة.

نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يثبتنا على الإسلام وأن يديم علينا الإيمان والأمن والاستقرار، والسعادة والهناء والصحة والعافية، والسير على طاعته ومرضاته، والتوفيق لحسن الختام.

اللهم اجعلنا ممن طال عمره وحسن عمله، ولا تجعلنا ممن طال عمره وساء عمله.

اللهم أجعل خير أعمارنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك.

اللهم أحسن خواتيمنا، وأحسن أعمالنا وأقوالنا ونياتنا، واجعلها خالصة لوجهك الكريم…اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم آمنا في أوطاننا وفي خليجنا واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم ووفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين.. اللهم أحفظنا وبلادنا وبلاد المسلمين والعالم أجمعين، من الأوبئة وسيئ الأسقام والأمراض، ومّن بالشفاء والعافية على المصابين بهذا الوباء، وارحم المتوفين به، وعجل بانتهائه في القريب العاجل برحمتك وفضلك يا أرحم الراحمين.

اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلح قادتهم وعلماءهم وشبابهم وفتياتهم ونسائهم ورجالهم يا سميع الدعاء، اللهم كن لإخواننا المستضعفين المظلومين في كل مكان ناصراً ومؤيداً.. اللهم أحفظ المسجد الأقصى مسرى نبيك  وحصنه بتحصينك، وأكلأه برعايتك، واجعله في حرزك وأمانك وضمانك يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، ونفس كروبنا، وعاف مبتلانا، واشف مرضانا، واشف مرضانا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

الْلَّهُمَّ نَوِّرْ عَلَىَ أَهْلِ الْقُبُوْرِ مَنْ الْمُسْلِمِيْنَ قُبُوْرِهِمْ، وَاغْفِرْ لِلأحْيَاءِ وَيَسِّرْ لَهُمْ أُمُوْرَهُمْ، الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ  وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

        خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين